الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
قد تقدم ذكر أبي عبد الرحمن العمري واسمه عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وكان سبب ظهوره بمصر أن البجاة أقبلت يوم العيد فنهبوا وقتلوا وعادوا غامنين وفعلوا ذلك مرات فخرج هذا العمري غضبًا لله وللمسلمين وكمن لهم في طريقهم فلما عادوا خرج يحصي وتابع عليهم الغارات حتى أدوا إليه الجزية ولم يفعلوها قبل ذلك. واشتدت شوكة العمري وكثر أتباعه فلما بلغ خبره ابن طولون سير إليه جيشًا كثيفا فلما التقوا تقدم العمري وقال لمقدم الجيش: إن ابن طولون لا يعرف خبري لا شك على حقيقته فإني لم أخرج للفساد ولم يتأذ بي مسلم ولا ذمي وإمنا خرجت طلبًا للجهاد فاكتب إلى الأمير أحمد عرفه كيف حالي فإن أمرك بالانصراف فانصرف وإلا إن أمرك بغير ذلك كنت معذورًا. فلم يجبه إلى ذلك وقاتله فانهزم جيش ابن طولون فلما وصلوا إليه أخبروه بحال العمري فقال: كنتم أنهيتم حاله إلي فإنه نصر عليكم ببغيكم. وتركه. فلما كان بعد مدة وثب على العمري غلامان له فقتلاه وحملا رأسه إلى أحمد بن طولون فلما حضرا عنده سألهما عن سبب قتله فقالا: أردنا التقرب إليك بذلك فقتلهما وأمر برأس العمري فغسل وكفن ودفن.
في هذه السنة سار محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس إلى طليطلة فنازلها وحصرها وكان أهلها قد خالفوا عليه وطلبوا الأمان فأمنهم وأخذ رهائنهم. وفيها خرج أهل طليطلة إلى حصن سكيان وكان فيه سبع مائة رجل من البربر وكان أهل طليطلة في عشرة آلاف فلما التحمت بينهم الحرب انهزم أحد مقدمي أهلها وهوعبد الرحمن بن حبيب فتبعه أهل طليطلة في الهزيمة وإمنا انهزم لعداوة كانت بينه وبين مقدم آخر اسمه طريشة من أهل طليطلة فأراد أن يوهنه بذلك فلما انهزموا قتلوا البرقيل. وفيها عاد عمروبن عمروس إلى طاعة محمد بن عبد الرحمن وكان مخالفًا عليه عدة سنين فولاه مدينة أمشقة وحصر محمد حصون بني موسى ثم تقدم إلى بنبلونة فوطئ أرضها وعاد.
وفيها سارت سرية للمسلمين إلى مدينة سرقوسة فصالحها أهلها على أن أطلقوا الأسرى الذين كانوا عندهم من المسلمين ثلاثمائة وستين أسيرا فلما أطلقوهم عادت عنهم. وفيها قتل كيجور وكان سبب قتله أنه كان على الكوفة فسار عنها إلى سامرا بغير إذن فأمر بالرجوع فأبى فحمل إليه مال ليفرقه في أصحابه فلم يقنع به وسار حتى أتى عكبرا فوجه إليه من سامرا عدة من القواد فقتلوه وحملوا رأسه إلى سامرا. وفيها غلب يعقوب بن الليث عن بلخ فأقام بقهستان وولى عماله هراة وبوشنج وباذغيس وانصرف إلى سجستان.وفيها فارق عبد الله السجزي وحاصر نيسابور وبها محمد ابن طاهر قبل أن يملكها يعقوب بن الليث فوجه محمد بن طاهر إليه الرسل والفقهاء فاختلفوا بينهما ثم ولاه الطبسين وقهستان وفيها غلب الحسن بن زيد على قومس ودخلها أصحابه. وفيها كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن بين ووهوسوذان بن جستان الديلمي وانهزم وهسوذان. وفيها نزلت الروم على سميساط ثم نزلوا على ملطية وقاتلهم أهلها فانهزمت الروم وقتل بطريق البطارقة. وحج بالناس العباس بن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف ببرية.وفيها مات محمد بن يحيى بن موسى أبوعبد الله بن أبي زكرياء الأسفرايني المعروف بابن حيويه ومحمد بن عمروس بن يونس بن عمران بن دينار الكوفي الثعلبي وكان شيعيًا ضعيف الحديث. وفيها توفي أبوالحسن بن علي بن حرب الطائي الموصلي وكان محدثًا وممن روى عنه أبوه علي بن حرب.
وفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد العلوي فهزمه ودخل طبرستان. وكان سبب ذلك أن عبد الله السجزي كان ينازع يعقوب الرئاسة بسجستان فقهره يعقوب فهرب منه عبد الله إلى نيسابور فلما سار يعقوب إلى نيسابور كما ذكر أن هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد بطبرستان فسار يعقوب في أثره فلقيه الحسن بن زيد بقرية سارية. وكان يعقوب قد أرسل إلى الحسن يسأله أن يبعث إليه عبد الله ويرجع عنه فإنه إمنا جاء لذلك لا لحربه فلم يسلمه الحسن فحاربه يعقوب فانهزم الحسن ومضى نحوالسر وأرض الديلم ودخل يعقوب سارية وآمل وجبى أهلها خراج سنة ثم سار في طلب الحسن فسار إلى بعض جبال طبرستان وتتابعت عليه الأمطار نحوًا من أربعين يوما فلم يتخلص إلا بمشقة شديدة وهلك عامة ما معه من الظهر. ثم أراد الدخول خلف الحسن فوقف على الطريق الذي يريد أن يسكه وأمر أصحابه بالوقوف ثم تقدم وحده وتأمل الطريق ثم رجع إليهم فأمرهم بالانصراف وقال لهم: إنه لم يكن طريق غير هذا وإلا لا طريق إليه. وكان نساء أهل تلك الناحية قلن لرجال: دعوه يدخل فإنه إن دخل كفيناكم أمره وعلينا أسره لكم. فلما خرج من طبرستان عرض رجاله ففقد منهم أربعون ألفا وذهب أكثر ما كان معه من الخيل والإبل والبغال والأثقال وكتب إلى الخليفة بما فعله مع الحسن من الهزيمة وسار إلى الري في طلب عبد الله لأنه كان قد سار إليها بعد هزيمة الحسن فلما قاربها يعقوب كتب إلى الصلاني واليها يخيره بين تسليم عبد الله إليه وينصرف عنه وبين المحاربة فسلم إليه عبد الله فرحل عنه وقتل عبد الله.
كان الخليفة المعتمد على الله قد استعمل على الموصل أساتكين وهومن أكابر قواد الأتراك فسير إليها ابنه أذكوتكين في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ومائتين فلما كان يوم النيروز من هذه السنة وهوالثالث عشر من نيسان غيره المعتضد بالله ودعا أذكوتكين ووجوه أهل الموصل إلى قبة في الميدان وأحضر أنواع الملاهي وأكثر الخمر شرب ظاهرا وتجاهر أصحابه بالفسوق وفعل المنكرات وأساء السيرة في الناس. وكان تلك السنة بدرد شديد أهلك الأشجار والثمار والحنطة والشعير وطالب الناس بالخراج على الغلات التي هلكت فاشتد ذلك عليهم وكان لا يسمع بفرس جيد عند أحد إلا أخذه وأهل الموصل صابرون إلى أن وثب رجل من أصحابه على امرأة فأخذها في الطريق فامتنعت واستغاثت فقام رجل اسمه إدريس الحميري وهومن أهل القرآن والصلاح فخلصها من يده فعاد الجندي أذكوتكين فشكا من أرجل فأحضره وضربه ضربًا شديدًا من غير أن يكشف الأمر فاجتمع وجوه الموصل إلى الجامع وقالوا: قد ضربنا على أخذ الأموال وشتم الأعراض وإبطال السنن والعسف وقد أفضى الأمر إلى أخذ الحريم فاجمع رأيهم على إخراجه والشكوى منه إلى الخليفة. وبلغه الخبر فركب إليهم في جنده وأخذ معه النفاطين فخرجوا إليه وقاتلوه قتالًا شديدا حتى أخرجوه عن الموصل ونهبوا داره وأصابه حجر فأثخنه ومضى من يومه إلى بلده وسار منه إلى سامرا. واجتمع الناس إلى يحيى بن سليمان وقلدوه أمرهم ففعل فبقي كذلك إلى أن انقضت سنة ستين فلما دخلت سنة إحدى وستين كتب أساتكين إلى الهيثم بن عبد الله بن المعمر التغلبي ثم العدوي في أن يتقلد الموصل وأرسل إليه الخلع والواء وكان بديار ربيعة فجمع جموعًا كثيرة وسار إلى الموصل ونزل بالجانب الشرقي وبينه وبين البلد دجلة فقاتلوه فعبر إلى الجانب الغربي وزحف إلى باب البلد فخرج إليه يحيى بن ليمان في أهل الموصل فقاتلوه فقتل بينهم قتلى كثيرة وكثرت الجراحات وعاد الهيثم عنهم. فاستعمل أساتكين على الموصل إسحاق بن أيوب التغلبي فخرج في جمع يبلغون عشرين ألفا منهم حمدان بن حمدون التغلبي وغيره فنزل عند الدير الأعلى فقاتله أهل الموصل ومنعوه فبقوا كذلك مدة فمرض يحيى بن سليمان الأمير فطمع إسحاق في البلد وجد في الحرب فانطشف الناس بين يديه فدخل إسحاق البلد ووصل إلى سوق الأربعاء وأحرق سوق الحشيش فخرج بعض العدول اسمه زياد بن عبد الواحد. وعلق في عنقه مصحفا واستغاث بالمسلمين فأجابوه وعادوا إلى الحرب وحملوا إلى إسحاق وأصحابه وأخرجوهم من المدينة. وبلغ يحيى بن سليمان الخبر فأمر فحمل في محفة وجعل أمام الصف فلما رآه أهل الموصل قويت نفوسهم واشتد قتالهم ولم يزل الأمر كذلك وإسحاق يراسل أهل الموصل وبعدهم الأمان وحسن السيرة فأجابوه إلى أن يدخل البلد ويقيم بالربض الأعلى فدخل وأقام سبعة أيام. ثم وقع بين بعض أصحابه وبين قوم من أهل الموصل شر فرجعوا إلى الحرب وأخرجوه عنها واستقر يحيى بن سليمان بالموصل.
وفي هذه السنة ظهر موسى بن ذي النون الهواري بشنت برية وأغار على أهل طليطلة ودخل حصن وليد من شنت برية فخرج أهل طليطلة إليه في نحوعشرين ألفا فلما التقوا بموسى واقتتلوا انهزم محمد بن طريشة في أصحابه وهومن أهل طليطلة فتبعه أهل طليطلة في الهزيمة وانهزم معهم مطرف بن عبد الرحمن فعمل ذلك محمد مكافأة لمطرف حين انهزم بالناس في العام الماضي فقتل أهل طليطلة خلق كثير وقوي موسى ابن ذي النون وهابه من حاذره.
في هذه السنة قتل رجل من أصحاب مساور الشاري محمد بن هارون ابن المعمر رآه وهويريد سامرا فقتله وحمل رأسه إلى مساور فطلبت ربيعة بثأره فندب مسرور البلخي وغيره إلى أخذ الطرق على مساور. وفيها اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام فانجلى من أهل مكة كثير ورحل عنها عاملها وهوبرية وبلغ الكر الحنطة ببغداد عشرين ومائة دينار ودام ذلك شهورًا. وفيها قتلت الأعراب منجورًا والي حمص واستعمل عليها بكتمر. وفيها قتل العلاء بن أحمد الأزدي عامل أذربيجان وكان سبب قتله أنه فلج فاستعمل الخليفة مكانه أبا الرديني عمر بن علي فلما قاربها خرج إليه العلاء فتحاربا فقتل العلاء وانهزم أصحابه وأخذ أبوالرديني ما خلفه العلاء وكان مبلغه ألفي ألف وسبع مائة ألف درهم. وحج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المعروف ببرية وهوأمير مكة. وفيها ظهر بمصر إنسان يكنى أبا روح واسمه سكن وكان من أصحاب ابن الصوفي واجتمع له جماعة فقطع الطريق وأخاف السبيل فوجه إليه ابن طولون جيشا فوقف أبوروح في أرض كثيرة الشقوق وقد كان بها قمح فحصد وبقي من تبنه على الأرض ما يستر الشقوق وقد ألفوا المشي على مثل هذه الأرض. فلما جاءهم الجيش لقوهم ثم انهزم أصحاب أبي روح فتبعهم عسكر ابن طولون فوقعت حوافر خيولهم في تلك الشقوق فسقط كثير من فرسانها عنها وتراجع أصحاب أبي روح عليهم فقتلوهم شر قتلة وانهزم الباقون أسوأ هزيمة. فسير أحمد جيشًا إلى طريقهم إلى الواحات وجيشًا في طلبه فلقيه الجيش الذي في طلبه وقد تحصن في مثل تلك الأرض فحذرها عسكر أحمد فحين بطلت حيلهم انهزموا وتبعهم العسكر فلما خرجوا إلى طريق الواحات رأى أبوروح الطريق قد ملكت عليه فراسل يطلب الأمان فبذل له وبطلت الحرب وكفي المسلمون شره. وفيها توفي علي بن محمد العلوي الخماني وكان يسكن الخمان فنسب إليها. وفيها كان بإفريقية وبلاد المغرب والأندلس غلاء شديد وعم غيرها من البلاد وتبعه وباء وطاعون عظيم هلك فيه كثير من الناس. وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن عبدوس الفيه المالكي صاحب المجموعة في الفقه وهومن أهل إفريقية. وفيها مات مالك بن طوق التغلبي بالرحبة وهوبناها وإليه تنسب. وفيها توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وهوأبومحمد العلوي العسكري وهوأحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية وهووالد محمد الذي يعتقدونه المنتظر بسرداب سامرا وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وفيها توفي أبوعلي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني الفقيه الشافعي وهومن أصحاب الشافعي البغداذيين. وفيها توفي حسين بن إسحاق الحكيم البيب. وهوالذي نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية وكان عالمًا بها.
وفيها تحارب ابن واصل وعبد الرحمن بن مفلح وطاشتمر. وكان سبب ذلك أن ابن واصل كان قتل الحارث بن سيما وتغلب على فارس فأضاف المعتمد فارس إلى موسى بن بغا والأهواز والبصرة والبحرين واليمامة مع ما كان إليه فوجه موسى عبد الرحمن بن مفلح وهوشاب عمره إحدى وعشرون سنة إلى الأهواز وولاه إياها مع فارس وأضاف إليه طاشتمر فلما علم ذلك ابن واصل وأن ابن مفلح قد سار نحوه من الأهواز زحف إليه من فارس فالتقيا إليه من فارس فالتقيا برامهرمز. وانضم أبوداود الصعلوك إلى ابن واصل فاقتتلوا فانهزم عبد الرحمن واخذ أسيرا وقتل طاشتمر واطلم عسكرهما وغمن ما فيه من الأموال والعدة وغير ذلك. وأرسل الخليفة إلى ابن واصل في إطلاق عبد الرحمن فلم يفعل وقتله وأظهر أنه مات وسار ابن واصل من رامهرمز من بعد هذه الوقعة مظهرًا أنه يريد واسط لحرب موسى بن بغا فانتهى إلى الأهواز وفيها إبراهيم بن سيما في جمع كثير فلما رأى موسى شدة الأمر بهذه الناحية وكثرة المتغلبين عليها وأنه يعجز عنهم سأل أن يعفى فأجيب إلى ذلك. وفيها ولي أبوالساج الأهواز بعد مسير عبد الرحمن عنها إلى فارس وأمر بمحاربة الزنج فسير صهره عبد الرحمن لمحاربة الزنج فلقيه علي ابن أبان بناحية دولاب فقتل عبد الرحمن وانحاز أبوالساج إلى ناحية عسكر مكرم ودخل الزنج الأهواز فقتلوا أهلها وسبوا وأحرقوا. ثم انصرف أبوالساج عما كان إليه من الأهواز وحرب الزنج وولاها إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف عنها مع موسى بن بغا. وفيها ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان.
لما كان من الوقعة بين عبد الرحمن بن مفلح وبين ابن واصل ما ذكرناه اتصل خبرهما إلى يعقوب الصفار وهو بسجستان فتجدد طمعه في ملك بلاد فارس وأخذ الأموال والخزائن والسلاح التي غمنها ابن واصل من ابن مفلح فسار مجدًا. وبلغ ابن واصل خبر قربه منه وانه نزل البيضاء من أرض فارس وهوبالأهواز فعاد عنها لا يلوي علي شيء وأرسل خاله أب بلال مرداسًا إلى الصفار فوصل إليه وضمن له طاعة ابن واصل فأرسل يعقوب الصفار إلى ابن واصل كتبًا ورسلًا في المعنى فحبسهم ابن واصل وسار يطلب الصفار والرسل معه يريد أن يخفي خبره وأن يصل إلى الصفار بغتة لم يعلم به. فينال منه غرضه ويوقع به. فسار في يوم شديد الحر في ارض صعبة المسلك وهو يظن أن خبره قد خفي عن الصفار فلما كان الظهر تعبت دوابهم فنزلوا ليستريحوا فمات من أصحاب ابن واصل من الرجالة كثير جوعًا وعطشا وبلغ خبرهم الصفار فجمع أصحابه وأعلمهم الخبر وسار وقال لأبي بلال: إن ابن واصل قد غدر بنا وحسبنا الله ونعم الوكيل! ومضى الصفار إلى ابن واصل فلما قاربهم وعلموا به انخذلوا وضعفت نفوسهم عن مقاومته ومقاتلته ولم يتقدموا خطوة فلما صار بين الفريقين رمية سهم انهزم أصحاب ابن واصل من غير قتال وتبعهم عسكر الصفار وأخذوا منهم جميع ما غمنوه من ابن مفلح واستولى على بلاد فارس ورتب بها أصحابه وأصلح أحوالها. ومضى ابن واصل منهزما فأخذ أمواله من قلعته وكانت أربعين ألف ألف درهم وأوقع يعقوب بأهل زم لأنهم أعانوا ابن واصل وحدث نفسه بالاستيلاء على الأهواز وغيرها. وفيها في شوال جلس المعتمد في دار العامة فولى ابنه جعفرًا العهد ولقبه المفوض إلى الله وضم إليه موسى بن بغا فولاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ومهرجانقذق وولى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر ولقبه الناصر لدين الله الموفق وولاه المشرق وبغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان وقم وكرج ودينور والري وزنجان والسند وعقد لكل واحد منهما لواءين: أسود وأبيض وشرط إن حدث به الموت وجعفر لم يبلغ أن يكون الأمر للموفق ثم لجعفر بعده وأخذت البيعة بذلك. فعقد جعفر لموسى على المغرب وأمر الموفق أن يسير إلى حرب الزنج فولى الموفق الأهواز والبصرة وكور دجلة مسرورًا البلخي وسيره في مقدمته في ذي الحجة. وعزم على المسير بعده فحدث من أمر يعقوب الصفار ما منعه عن المسير وسن ذكر أول سنة اثنتين وستين ومائتين. وفيها فارق محمد بن زيدويه يعقوب بن الليث وسار إلى أبي الساج وأقام معه بالأهواز وخلع عليه المعتمد وسأل أن يوجه الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى خراسان. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ومات الحسن بن أبي الشوارب بمكة بعدما حج. ما وراء النهر في هذه السنة استعمل نصر بن أحمد بن أسد بن سامان خداه بن جثمان ابن طمغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين بن بهرام خشنش وكان بهرام خشنش من الري فجعله كسرى هرمز بن أنوشروان مرزبان أذربيجان وقد تقدم ذكر بهرام جوبين عند ذكر كسرى هرمز. ولما ولي المأمون خراسان واصطلح أولاد أسد بن سامان وهم: نوح وأحمد ويحيى وإلياس بنوأسد بن سامان قربهم ورفع منهم واستعملهم ورعى حق سلفهم فلما رجع المأمون إلى العراق استخلف على خراسان غسان بن عباد فولى غسان نوح بن أسد في سنة أربع ومائتين سمرقند وأحمد بن أسد فرغانة ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة وإلياس بن أسد هراة. فلما ولي طاهر بن الحسين خراسان ولاهم هذه الأعمال ثم توفي نوح ابن أسد وأقر طاهر بن عبد الله أخويه على عمله: يحيى وأحمد وكان أحمد بن أسد عفيف الطعمة مرضي السيرة لا يأخذ رشوة ولا أحد من أصحابه ففيه قيل أوفي ابنه نصر: ثوى ثلاثين حولًا في ولايته فجاع يوم ثوى في قبره حشمه وكان إلياس يلي هراة وله بها عقب وآثار كثيرة فاستقدمه عبد الله ابن طاهر وكان رسمه فيمن يستقدمه أن يعد أيامه فأبطأ إلياس فكتب إليه بالمقام حيث يلقاه كتابه فبلغه الكتاب وقد سار عن بوشنج فأقام بها سنة تأديبًا له ثم أذن له في القدوم عليه. فلما مات إلياس بهراة أقر عبد الله ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس على عمله فأقام بهراة وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين وهم: نصر وأبويوسف يعقوب وأبوزكرياء يحيى وأبوالأشعث أسد وإسماعيل وإسحاق وأبوغامن حميد ولما توفي أحمد بن أسد استخلف ابنه نصرًا على أعماله بسمرقند وما وراءها فبقي عاملًا عليها إلى آخر أيام الطاهرية وبعد زوال أمرهم إلى أن مضى لسبيله. وكان إسماعيل بن أحمد يخدم أخاه نصرا فولاه نصر بخارى سنة إحدى وستين ومائتين. ومعنى قول أبي جعفر: وفي سنة إحدى وستين ولي نصر بن أحمد ما وراء النهر أنه تولاه من جانب الخليفة وإمنا كان يتولاه من قبل من عمال خراسان وإلا فالقوم تولوا قبل هذا التاريخ. وكان سبب استعماله إسماعيل إنه لما استولى يعقوب بن الليث على خراسان أنفذ نصر جيشًا إلى شط جيحون ليأمن عبور يعقوب فقتلوا مقدمهم ورجعوا إلى بخارى فخافهم أحمد بن عمر نائب نصر على نفسه فتغيب عنهم فأمروا عليهم أبا هاشم محمد بن المبشر بن رافع بن الليث بن نصر بن سيار ثم عزلوه وولوا أحمد بن محمد بن ليث والد أبي عبد الله بن جنيد ثم صرفوه وولوا الحسن بن محمد من ولد عبدة بن حديد ثم صرفوه وبقيت بخارى بغير أمير فكتب رئيسها وفقيهها أبوعبد الله بن أبي حفص إلى نصر يسأله توجيه من يضبط بخارى فوجه أخاه إسماعيل ثم إن إسماعيل كاتب رافع بن هرثمة حين ولي خراسان فتعاقدا على التعاون والتعاضد فطلب منه إسماعيل أعمال خوارزم فولاه إياها. وكان إسماعيل يؤامره في المكاتبة ثم سعت السعاة بين نصر وإسماعيل فأفسدوا ما بينهما فقصده نصر سنة اثنتين وسبعين ومائتين فأرسل إسماعيل حمويه بن علي إلى رافع بن هرثمة يستنجده فسار إليه في جيش كثيف فوافى بخارى قال حمويه: ففكرت في نفسي وقلت: إن ظفر إسماعيل بأخيه فما يؤمنني أن يقبض رافع على إسماعيل ويتغلب على ما وراء النهر وإن لم يفعل ذلك ووفى لإسماعيل فلا يزال إسماعيل معترفًا فقيد رافع وجريحه ويحتاج أن يتصرف على أمره ونهيه فاجتمعت برافع خلوة وقلت له: نصيحتك واجبة علي وقد ظهر لي من نصر وإسماعيل ما كان خفيًا عني ولست آمنهما عليك والراي أن لا تشاهد الحرب وتحملهما على الصلح فقبل ذلك فتصالحا وانصرف عنهما. قال لحمويه: ثم إنني أعلمت إسماعيل بعد ذلك الحال كيف كان فعذر رافعًا في إلزامه بالصلح واستصوب فعل حمويه وبقي نصر وإسماعيل مدة ثم عادت السعاة فسد ما بينهما حتى تحاربا سنة خمس وسبعين ومائتين فظفر إسماعيل بأخيه نصر فلما حمل إليه ترجل له إسماعيل وقبل يديه ورده من موضعه إلى سمرقند وتصرف على النيابة عنه ببخارى. وكان إسماعيل خيرا يحب أهل العلم والدين ويكرمهم وببركتهم دام ملكه وملك حكى أبوالفضل محمد بن عبد الله البلعمي قال: سمعت الأمير أبا إبراهيم إسماعيل بن أحمد يقول: كنت بسمرقند فجلست يومًا لمظالم وجلس أخي إسحاق إلى جانبي فدخل أبوعبد الله محمد بن نصر الفقيه الشافعي فقمت له إجلالًا لعلمه ودينه فلما خرج عاتبني أخي إسحاق وقال: أنت أمير خراسان يدخل عليك رجل من رعيتك فتقوم له فتذهب السياسة بهذا. قال: فبت تلك الليلة فرأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام وكأني واقف وأخي إسحاق فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخذ بعضدي فقال لي: يا إسماعيل! ثبت ملكك وملك بيتك لإجلالك لمحمد ابن نصر. ثم التفت إلى إسحاق وقال: ذهب ملك إسحاق وملك بيته باستخفافه بمحمد بن نصر. وكان محمد بن نصر هذا من العلماء بالفقه على مذهب الشافعي العاملين بعلمه المصنفين فيه وسافر إلى البلاد في طلب العلم وأخذ العلم بمصر من أصحاب الشافعي يونس بن عبد الأعلى والربيع بن سليمان ومحمد بن عبد الله بن الحكم وصحب الحارث المحاسبي واخذ عنه علم المعاملة وبرز فيه أيضًا.
وفي هذه السنة عصى أهل برقة على أحمد بن طولون وأخرجوا أميرهم محمد بن الفرج الفرغاني فبعث ابن طولون جيشًا عليهم غلامه لؤلؤ وأمره بالرفق بهم واستعمال اللين فإن انقادوا وإلا السيف. فسار العسكر حتى نزلوا على برقة وحصروا أهلها وفعلوا ما أمرهم من اللين فطمع أهل برقة وخرجوا يومًا على بعض العسكر وهم نازلون على باب البلد فأوقعوا بهم وقتلوا منهم. فأرسل لؤلؤ إلى صاحبه أحمد يعرفه الخبر فأمره بالجد في قتالهم فنصب عليهم المجانيق ووجد في قتالهم وطلبوا الأمان فأمنهم ففتحوا له الباب فدخل البلد وقبض على جماعة من رؤسائهم وضربهم بالسياط وقطع أيدي بعضهم وأخذ معه جماعة منهم وعاد إلى مصر واستعمل على برقة عاملا. ولما وصل لؤلؤ إلى مصر خلع عليه أحمد خلعة فيها طوقان فوضعها في رقبته وطيف بالأسرى في البلد.
في هذه السنة توفي محمد بن أحمد بن الأغلب صاحب إفريقية سادس جمادى الأولى وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يومًا. ولما حضره الموت عقد لابنه عقال العهد واستخلف أخاه إبراهيم لئلا ينازعه وأشهد عليه آل الأغلب ومشايخ القيروان وأمره أن يتولى الأمر إلى أن يكبر ولده فلما مات أهل القيروان إبراهيم وسألوه أن يتولى أمرهم لحسن سيرته وعدله فلم يفعل ثم أجاب وانتقل إلى قصر الإمارة وباشر الأمور وقام بها قيامًا مرضيًا. وكان عادلا حازمًا في أموره أمن البلاد وقتل أهل البغي والفساد وكان يجلس لعدل في جامع القيروان يوم الخميس والاثنين يسمع شكوى الخصوم وبصبر عليهم ووينصف بينهم. وكان القوافل والتجار يسيرون في الطرق آمنين. وبنى الحصون والمحارس على سواحل البحر حتى كان يوقد النار من سبتة فيصل الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة وبني على سوسة سورا وعزم على الحج فرد المظالم وأظهر الزهد والنسك وعلم أنه إن جعل طريقه إلى مكة على مصر منعه صاحبها ابن طولون فتجري بينهما حرب فيقتل المسلمون فجعل طريقه على جزيرة صقلية ليجمع بين الحج والجهاد ويفتح ما بقي من حصونها فاخرج جميع ما أذخره من المال والسلاح وغير ذلك وسار إلى سوسة فدخلها وعليه فرومرقع في زي الزهاد أول سنة تسع وثمانين ومائتين وسار منها في الأسطول إلى صقلية. وسار إلى مدينة فملكها سلخ رجب وأظهر العدل وأحسن إلى الرعية وسار إلى طبرمين فاستعد أهلها لقتاله فلما وصل خرجوا إليه والتقوا فقرأ القارئ: والتجأ بعضهم إلى الحصن وأحاط بهم المسلمون وقاتلوهم فاستنزلوهم قهرا وغمنوا أموالهم وسبوا ذراريهم وذلك لسبع بقين من شعبان وأمر بقتل المقاتلة وبيع السبي والغنيمة. ولما اتصل الخبر بفتح طبرمين إلى ملك الروم عظم عليه وبقي سبعة أيام لا يلبس التاج وقال: لا يلبس التاج محزون. وتحركت الروم وعزموا على المسير إلى صقلية لمنعها من المسلمين فبلغهم أنه سائر إلى القسطنطينية فترك الملك ها عسكرًا عظيما وسير جيشًا كثيرًا إلى صقلية. وأما الأمير إبراهيم فإنه لما ملك طبرمين بث السرايا في مدن صقلية التي بيد الروم وبعث سرية إلى ميقش وسرية إلى دمشق فوجدوا أهلها قد أجلوا عنها فغمنوا ما وجدوا بها. وبعث طائفة إلى رمطة وطائفة إلى الياج فأذعن القوم جميعًا إلى أداء الجزية فلم يجبهم الرسل منها يطلبون الأمان فلم يجبهم. وكان قد ابتدأ به المرض وهوعلة الذرب فنزلت العساكر على المدينة فلم يجدوا في قتالها لغيبة الأمير عنهم فإنه نزل منفردًا لشدة مرضه وامتنع منه النوم وحدث به الفواق وتوفي ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين فاجتمع أهل الري من العسكر أن يولوا أمرهم أبا مضر بن أبي العباس عبد الله ليحفظ العساكر والأموال والخزائن إلى أن يصل إلى ابنه بإفريقية وجعلوا الأمير إبراهيم في تابوت وحملوه إلى إفريقية ودفنوه بالقيروان رحمه الله. وكانت ولايته خمسًا وعشرين سنة وكان عاقلا حسن السيرة محبًا لخير والإحسان تصدق بجميع ما يملك ووقف أملاكه جميعها وكان له فطنة عظيمة بإظهار خفايا العملات فمن ذلك أن تاجرًا من أهل القيروان كانت له امرأة جميلة صالحة عفيفة فاتصل خبرها بوزير الأمير إبراهيم فأرسل إليها فلم تجبه فاشتد غرامه بها وشكا حاله إلى عجوز كانت تغشاه وكانت أيضًا لها من الأمير منزلة ومن والدته منزلة كبيرة وهي موصوفة عندهم بالصلاح يتبركون بها ويسألونها الدعاء فقالت للوزير: أنا أتلطف بها وأجمع بينكما. وراحت إلى بيت المرأة فقرعت الباب وقالت: قد أصاب ثوبي نجاسة أريد تطهيرها فخرجت المرأة ولقيتها فرحبت بها وأدخلتها وطهرت ثوبها وقامت العجوز تصلي فعرضت المرأة عليها الطعام فقالت: إني صائمة ولا بد من التردد إليك ثم صارت تغشاها ثم قالت لها: عندي يتيمة أريد أن أحملها إلى زوجها فإن خفت عليك إعارة حليك أجملها به فعلت. وأحضرت جميع حليها وسلمته إياها فأخذته العجوز وانرفت وغابت أياما وجاءت إليها فقالت لها: أين الحلى فقالت: هوعند الوزير عبرت عليه وهومعي فأخذه مني وقال لا يسلمه إلا إليك فتنازعتا وخرجت العجوز وجاء التاجر زوج المرأة فأخبرته الخبر فحضر دار الأمير إبراهيم وأخبره الخبر فدخل الأمير إلى والدته وسألها عن العجوز فقالت: هي تدعولك فأمر بإحضارها ليتبرك بها فأحضرتها والدته فلما رآها أكرمها وأقبل عليها ثم إنه أخذ خاتمًا من إصبعها وجعل يقبله ويعبث به ثم إنه أحضر خصيًا له وقال له: انطلق إلى بيت العجوز وقل لابنتها تسلم الحق الذي فيه الحلي وصفته كذا وهوكذا وكذا وهذا الخاتم علامة منها. فمضى الخادم وأحضر الحق فقال لعجوز: ما هذا فلما رأت الحق سقط في يدها وقتلها ودفنها في الدار وأعطى الحق لصاحبه وأضاف إليه شيئًا آخر وقال له: أما الوزير فإن انتقمت منه الآن ينكشف الأمر ولكن سأجعل له ذنبًا آخذه به فتركه مدة يسيرة وجعل له جرمًا آخذه به فقتله.
|